دائماً أعود إلى التاريخ عندما تختلط الأمور وتصبح الرؤية ضبابية، فالتاريخ هو معمل الزمن الوحيد الذى يستطيع أن يبث فى قلبك الطمأنينة ويزرع فى وجدانك وعقلك الفهم ووضوح الرؤية، التاريخ هو الصوت الوحيد الذى سيخبرك هل ما تمر به مصر الآن من فتنة وتفرقة وهستيريا وكراهية وثأر وانتقام ما بين شريكى الوطن، هو ظرف طارئ أم جين وراثى مستقر يسكن نخاع الوطن وتتوارثه الأجيال؟ أعود إلى تاريخ وحكايات الزمن الجميل لمصر فى عصر ما قبل السقوط وما قبل الدروشة والتغييب والفاشية المستترة بالدين.

راغب عياد فنان تشكيلى مسيحى، يوسف كامل فنان تشكيلى مسلم، دفعة واحدة ووجدان مشترك وروح تسرى فى جسدين، تخرجا فى كلية الفنون الجميلة فى أول دفعة، وحكاية هذه الكلية قصة جميلة من قصص الزمن الجميل تحتاج مجلدات لسرد روعة هذا الزمن بل وروعة هذا الوطن حين يظهر معدنه الجميل، سنؤجل حكايتها لفرصة أخرى بإذن الله، المهم أن هذين الشابين كان طموحهما الفنى بلا حدود، ولدت فكرة تحويل هذا الطموح إلى واقع فى مرسم راغب عياد الذى كان فى الحقيقة مرسم الصديقين معاً، السفر إلى أوروبا وصقل الموهبة كان هو الحلم، ولكن ضيق ذات اليد كان هو الكابوس، فكل منهما مدرس بسيط يتقاضى ملاليماً تكفى بالكاد لقمة العيش.

اقترح راغب أن يسافر يوسف أولاً ويوفر راغب نفقات السفر والتعلم من عمله مدرساً فى المدرستين بعد موافقة ناظرى مدرسة راغب ويوسف، وسافر يوسف كامل وتعلم وأصبح جبرتى مصر التشكيلى، عاد يوسف ليسافر راغب عياد، تبدلت الأدوار ووفر الأول للثانى من خلال مواصلة الليل بالنهار نفقات بعثته، أعجب سعد زغلول زعيم الأمة بروح الإيثار الجميلة ما بين الصديقين الرائعين، وقرر من خلال البرلمان تخصيص مبلغ لنفقات بعثات كلية الفنون الجميلة والتى كان أول المستفيدين بها التوأم الروحى راغب ويوسف حيث سافرا إلى مهد الفن إيطاليا، أرجوك قارئى العزيز شاهد لوحات راغب عياد ويوسف كامل فى رحلة صفاء ومتعة وراحة من قبح واقعنا المعاصر، لتعرف أنه لا يمكن لفنان حقيقى إلا أن تكون روحه وسلوكياته بهذا الجمال وهذا الحب وهذه الشياكة.

حكاية أخرى من حكايات الزمن الجميل، نجيب إلياس الشهير بنجيب الريحانى الفنان المسيحى، بديع خيرى الكاتب المسرحى والسينمائى والشاعر المبدع المسلم، صديقان توأم قدما للمسرح والسينما أجمل الأعمال الكوميدية على مدى تاريخ الفن المصرى، ذهب الريحانى لتعزية صديقه بديع خيرى فى وفاة والدته جلفدان هانم، فوجئ الريحانى بالشيخ محمد رفعت خارجاً من العزاء بعد قراءة القرآن فى المأتم، حينها فقط عرف نجيب أن صديق عمره مسلم، عاتبه على أنه لم يقل له هذه المعلومة، فقال له بديع «أصلك ما سألتش»!!.

هذه هى مصر، وهذه دمعة على قبر الزمن الجميل.